. جمال حمدان انتقل إلى جوار ربه منذ 17 أبريل 1993، ومن المعلوم أن الجغرافيا السياسية
لا تحكم إلا بالثوابت، مهما علا صوت المتغيرات وتلونت إغراءاتها.
جمال حمدان صاحب "شخصية مصر" هو الأعلى شأنا على الإطلاق في الجغرافيا السياسية،
في مصر بدليل حصوله على وسام العلوم من الطبقة الأولى عن الكتاب: "شخصية مصر"
عام 1988م.
إستراتيجية مصر الخارجية
يقرر جمال حمدان إستراتيجية مصر الخارجية كالتالى
" الحقيقة العظمى في كيان مصر ونقطة البدء لأي فهم لشخصيتها الاستراتيجية، هي اجتماع موقع
جغرافي أمثل مع موضع طبيعي مثالي، وذلك في تناسب أو توازن نادر المثال. فالموقع والموضع هنا متماثلان، ومتناسبان إلى حد بعيد في المقياس. فكل منهما ضخم الحجم أو الخطر. ولكن في تناسق دقيق وشبه محسوب
فمصر ليست مجرد موقع أوموضع هام بل الاثنان معا، ليست مجرد ممر أو مقر خطر
، بل كلاهما، ليست مجرد محطة طريق حاسمة أو صومعة غلال ضخمة
بل هي هما على السواء.....إن معادلة القوة في مصر :
هي : القوة = الموقع X الموضع.
ذلك مفتاح الماضي مثلما هو دليل المستقبل " معادلة قوة مصر: الموقع X الموضع
لايتجمد بنا جمال حمدان في الماضي، بل يقرر بحس واقعي ومستقبلي متطور، وقع العلم
والثورة الصناعية والتكنولوجيا على ثاني عنصر من معادلة قوة مصر
(الموقع X الموضع)، وهو الموضع
كالتالي:
" للمرة الأولى في التاريخ لايصبح الموضع حقيقة جغرافية مطلقة من معطيات الطبيعة
لقد أصبح العلم عاملا جغرافيا واقتصاديا كما هو عامل سياسي يمكن أن يعيد خلق الموضع
شكلا ووزنا ووقعا، ولأول مرة أيضا يصبح الاستقلال حقيقة مثلثة : ليس سياسيا فحسب،
وليس اقتصاديا بعد ذلك، وإنما هو علمي في النهاية...."
وعن قيمة الموقع في العصر الحديث يقول حمدان :
بوعي جغرافي لاشك فيه انطلقت مصر المعاصرة (جمال عبد الناصر ) تشترى الموضع بالموقع
، فجعلت كل عوائد القناة رأسمالها للسد العالي الذي خلق ما يعرف ب
T.V.A (Tennessee Valley Aythortiy)
مكبرا على النيل ومحدثا بذلك ثورة جديدة في الموضع. وليس من الصدفة أننا لم نستطع
أن نسترد القناة إلا بعد أن كانت كفاءة القاعدة البشرية قد زادت وتطورت.
إن مصر المستقلة لم تبدأ إلا منذ أن ارتفع فيها الموضع إلى مستوى الموقع.
وعليها دائما أن تعمق موضعها وتكثفه لكي يظل كفؤا لموقعها الحاسم
وهنا يخطر تساؤل ضروري: ماذا فعلت مصر- ما بعد عبد الناصر لتعمق موضعها وتكثفه،
لكي يظل كفؤا لموقعها الحاسم؟ الأمر الذي يحدد وزنها السياسي، وقوتها الذاتية،
وبالتالي استراتيجيتها الخارجية ؟
وهل يرقى مشروع توشكى إلى مستوى أل TVA أي المشروع العظيم الذي يغير جغرافية
المكان لتعظيم قوة الموضع؟ مجرد سؤال .
بعد اغتصاب فلسطين وثورة البترول وعودة إلى جمال حمدان الذي يرى قدر مصر
بعد اغتصاب فلسطين وثورة البترول في الخليج كالتالي:
" كأنما على ميعاد، مأساة فلسطين – إسرائيل ومأساة البترول ـ العرب لتعملا بتوافق كامل
على تحجيم وتأزيم وتضمير مصر. ليت هذا فحسب، فكنتيجة لانقلاب الاستراتيجية المعاصرة،
عسكرية وتجارية، فقدت قناة السويس الكثير من قيمتها ومغزاها القديم، بينما انتقل مركز
الثقل الاستراتيجي العالمي الجديد إلى الخليج العربي كمستودع الطاقة وبئر البترول الاستراتيجية
الأولى في العالم . وحتى من الناحية الاقتصادية البحتة لم تكن عائدات القناة لتعادل عائدات حقل
بترول كبير أو متوسط من بين عشرات الحقول في مختلف دول البترول العربية...... معنى
هذا أن القيمة الاستراتيجية لثروة الموضع وموارده قد تفوقت كثيرا على القيمة التقليدية
للموقع ومكاسبه.......ومعنى هذا التشخيص إن صح أن القلب والأطراف الجغرافية من
المنطقة قد تبادلت الأدوار الاستراتيجية فيما بينها، بحيث انقلب النمط ظهرا لبطن أو بطنا لظهر
. فأصبح القلب الجغرافي هامشيا والأطراف الهامشية مركزية.
وأيا كان مدى الصحة أو الخطأ في هذا التصور، فلا مجال للشك في أن البترول قد أثر
على توزيع وتركيب القيم والأوزان والأدوار الاستراتيجية والسياسية في المنطقة
بشكل لا يمكن تجاهله ثم يستشرف جمال حمدان، في ثقة العالم المتمكن، تقييما
عاما جامعا لموقع مصر استعادت مصر عافيتها للمحة خاطفة فى عرف تاريخها
الطويل على يد جمال عبد الناصر
قبل أن تضربه بعنف الإمبراطورية الأمريكية الصاعدة. ، إلى أن تفجرت ثورة البترول
وأقيمت إسرائيل، فحدث الانقلاب الاستراتيجي في تبادل المراكز والأطراف للقوة .
وسنلاحظ أن الخليج وإسرائيل هما خارج المعادلة تماما، رغم انتقال المراكز حتى إلى
كل من إثيوبيا وليبيا في وقت ما كما سيتضح
وإذا ما تصورنا خريطة لمراكز القوى الكونية والإقليمية الحالية في ما بعد العصر الامريكى
: المتغيرات الحديثة يمكن تصور الخريطة التالية After Pax- Americana، فبإضافة
بشكل تمثيلي انطباعي، وليس بشكل علمي، فقط ليساعد على شرح الفكرة كما صاغها
جمال حمدان كالتالي :
فالنتيجة الصافية ومجمل القول انتقل مركز الثقل الجيوبوليتيكي والجاذبية الاستراتيجية
من البحر المتوسط إلى المحيط الهندي، ومن قناة السويس إلى الخليج العربي، ومن مصر
والشام إلى شرق الجزيرة العربية والمشرق العربي، ومن شمال البحر الأحمر
إلى جنوبه،
بالاختصار من وسط الشرق الأوسط إلى شرقه، أو إن شئت فقل بالتقريب من الشرق الأدنى
إلى الشرق الأوسط. ولعل من أبرز مظاهر وأعراض هذا الاختلال أو الانتقال شرقا تحول بؤرة
الحروب المحلية في المنطقة مؤخرا لاسيما بعد الصلح المصري – الإسرائيلي من ركن مصر
إسرائيل – سوريا إلى ركن العراق ـ ايران ـ افغانستان "
وإذا ما تذكرنا أن جمال حمدان وضع ذلك التصور من أكثر من عشرين عاما، وأنه رحل
عن عالمنا منذ 16 عام، يمكننا إدراك، إلى جانب عبقريته الأكيدة، مدى قوة ودقة التحليل
المستند إلى الثوابت الجغرافية. والخريطة التالية توضح استنتاجاته:
هنا نرى مراكز القوة العالمية على رأسها أمريكا وتشمل الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين،
والمراكز الإقليمية – بعد انكماش مصر بالسلام الإسرائيلي، واحتلال بغداد بالحرب الأمريكية –
هي تركيا وإيران وإسرائيل بمعيار القوة الشاملة، والخليج / السعودية وإيران بمعيار ثروة البترول.
ونحن نعلم بارتباط كل من المركز التركي والإسرائيلي عبر الأطلنطي بواشنطن. هكذا تبدو مصر
من منظور جغرافي استراتيجي وقد نقص وزن موقعها بشدة، ومن منظور اقتصادي وقد تقلصت قيمة
موضعها، وهكذا أصبحت بلاحول لها ولاقوه، لأنها فقدت القدرة على الخيال والحلم لتشتري الموقع
بالموضع كما فعل عبد الناصر واشترى بقناة السويس السد العالي فعوض بعض من خسارة الموقع
ببعض القوة في الموضع.
والأمر كذلك، يبدو أن اتجاهها او انحيازها غربا نحو مركز القوة العظمى في واشنطن، يمكن
فهمه في ضوء فقر الفكر وافتقاد الرؤية الاستراتيجية التي طالما مكنتها طوال تاريخها من اللعب
على التوازن بين القوى العالمية والإقليمية. وأن هذا الاتجاه قد استلزم، أو بدأ بالانزلاق في
التحالف بدلا من التوازن، وذلك بالاندفاع فيما وراء معاهدة السلام مع إسرائيل. وإن كان
هذا هو الواقع الذي يجب ان نتعامل معه، شئنا أم أبينا، فأعتقد أن هذا لا يعني التسليم به أو
الاستسلام له. فإن اللعب الذكي
على التوازنات الإقليمية يستدعي "الاتزان في اللعب" وعدم وضع البيض كله في السلة الأمريكية،
على الأقل بدءا من الآن، وقد فقدت أمريكا مكانتها كقوة عظمى وحيدة.وعلى ذلك، فيمكننا أن نرى أن
استعادة مصر لمكانها ومكانتها يكمن في المقاومة، وليس في الانحياز أو الانصياع، وهنا نجد،
للدهشة والغرابة، أن جمال حمدان يستدرك قبل عشرين عاما تقريبا، بشدة وبسرعة
حسب تعبيره، وصفة انكماش الدور المصري فيقرر بوضوح:
. على أن العزاء الحقيقي أن الموقف برمته عابر مؤقت مهما طال، فهو موقوت بعمر البترول الخليجي،
وبعده بتذبذب البندول مرة أخرى في الاتجاه الصحيح نحو الغرب مثلما فعل دائما.
فمصر رغم كل شئ موقع خالد لايمكن أن يتجاهل أو يهمل أو يبلى
أن مصر تملك القدرة على الصمود والكرامة رغم أي شئ، وفي هذا يسبقنا كالعادة
جمال حمدان حيث يقرر: فيما عدا الخطر الإسرائيلي إذا صفي، فإن مستقبل موقع مصر
ليس المنافسة بقدر ما هو التكامل، بل ليس المنافسة بقدر ما هو التفوق.....والخلاصة النهائية؟
الحقيقة المؤكدة هي أن كل الأخطار التي يمكن أن يتعرض لها موقع مصر عارضة ومفتعلة
للاستعمار فيها دور كبير، وليست نابعة من المنطقة أو المنطق. وموقعنا في جوهره الباقي
ليس أقل ضمانا أو رسوخا من موضعنا. وإنها لحقيقة حاسمة مثلما هي فأل حسن أننا ملكنا
زمام كل منهما في وقت واحد حين "أممنا" النهر و القناة. والاثنان معا يؤكدان سلامة الأساس
الطبيعي لبنائنا البشري رغم كل الشبهات والشكوك، وأن "كنانة الله"، "مصر المحروسة"،
يمكنها أن تنطلق إلى مستقبلها وأهدافها مطمئنة إلى أنها سيدة نفسها ومالكة أمرها من يمين
أو شمال بلا أدنى شك أوقلق، لأن ما كان أبوه التاريخ و أمه الجغرافيا فهو من صنع الطبيعة
وصلبها." أما إسرائيل فأعتقد بالقياس أن أبوها انجلترا وأمها أمريكا!.
رحم الله جمال حمدان
عن جريدة مصرنا ( مصر دولة مصرية .... وكفى ) 2009