أظهرت دراسات حديثة أجرتها الدكتورة إيمان محمد غنيم، مدير معمل أبحاث الفضاء بقسم الجغرافيا والجيولوجيا بجامعة نورث كرولينا بولمنجتون، بالولايات المتحدة الأمريكية، وجود ممر مائى عملاق قديم مدفون أسفل رمال الصحراء الكبرى يربط وسط أفريقيا بساحل البحر الأبيض المتوسط، مروراً بالأراضى الليبية حتى «خليج سرت».
وذكرت الدراسات أن إحدى الحلقات المهمة جداً من هذا الممر، هو حوض «نهر الكفرة» القديم، الواقع على الحدود المصرية- الليبية، والذى تقدر مساحته بحوالى «٢٣٦ ألف كيلومتر مربع».
وقالت: «لنهر الكفرة دلتا عملاقة تقدر مساحتها بحوالى ٣٤ ألف كيلومتر مربع بين الحدود المصرية- الليبية (الجزء الأكبر منها يقع داخل الأراضى الليبية)، والتى تعد من المناطق المحتمل احتواؤها على مياه جوفية وفيرة، إضافة إلى خام البترول والغاز الطبيعى».
وقامت الباحثة المصرية بتحديد ورسم مسار هذا الممر المائى العملاق القديم باستخدام تقنيات الاستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية (GIS)، مستعينة- حسب قولها- بالصور الطوبغرافية للأقمار الأصطناعية (SRTM) للتوصل إلى الكشف عن هذا الممر المائى المدفون أسفل الرمال.
وقالت- فى خلاصة أبحاثها: «أمكن من خلال هذه الدراسة وباستخدام تقنية النمذجة الهيدرولوجية رسم خريطة مفصلة لهذا الممر المائى القديم (والذى قدر طوله بحوالى ١٩٠٠ كيلومتر)، شاملة خريطة مفصلة لحوض نهر الكفرة»، موضحة أن واحة سيوة المصرية وما حولها ببحيراتها وآبارها العذبة «ما هى إلا جزء ضئيل من إمكانات هذا الحوض» الذى يمكن أن يمثل «خزاناً عملاقاً» للمياه الجوفية «حسب تأكيدها».
وأوضحت الدراسات أنه يعتقد أن هذا الممر المائى القديم ذو أهمية بالغة، من الناحية التاريخية، المتعلقة بعلوم الإنسان القديم (الأنثروبولجيا) فى كونه واحداً من الممرات المائية القديمة، مرجحة أن يكون الإنسان القديم استخدمه منذ أكثر من ١٥٠ ألف سنة فى العبور من وسط أفريقيا إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط شمالاً، وانتشاره خارج القارة.
وتحدثت مدير معمل أبحاث الفضاء بجامعة نورث كرولينا عن أهمية هذا الكشف من الناحية الاقتصادية، قائلة: «يمكن اعتبار الكشف عن هذا الممر المائى القديم العملاق مؤشراً على وجود مياه جوفية وفيرة، بجانب ثروات طبيعية متعددة، خصوصاً فى حوض نهر الكفرة».
وأضافت: «يعتقد أن هذا الممر المائى القديم له علاقة وثيقة بتكون بحر الرمال الأعظم فى شمال غرب مصر وشمال شرق ليبيا، حيث أدت التعرية النهرية على امتداد هذا الممر المائى القديم إلى تفتيت صخور الحجر الرملى جنوباً، ونقل رماله عبر الشبكة المائية النهرية وترسيبها شمالاً لتكوّن بدورها عبر الزمن الكثبان الرملية العملاقة لبحر الرمال الأعظم بالصحراء الغربية».
وتابعت الباحثة: «هنا تجدر الإشارة إلى الأهمية البالغة لهذا الممر المائى القديم فى كونه يخترق الحجر الرملى النوبى المسامى والمنفذ، والذى يعد بوجه عام من أجود خزانات المياه الجوفية فى العالم».
وأفادت الباحثة بأنها كانت أعلنت تفصيلاً لأول مرة عن نتائج هذه الدراسة والخاصة بالممر المائى القديم وحوض نهر الكفرة، كجزء مهم منه فى محاضرة ألقتها بمؤتمر الجمعية الجيولوجية الأمريكية، والذى عقد بالولايات المتحدة الأمريكية فى الفترة من ٢٣ إلى ٢٥ مارس الماضى، موضحة أن نتائج هذه الدراسة لاقت «اهتماماً بالغاً» من العلماء والمتخصصين فى المؤتمر.
الجدير بالذكر أيضاً أنه سبق للدكتورة إيمان غنيم استخدام نفس تقنية الاستشعار عن بعد، ونظم المعلومات الجغرافية (GIS) فى السنوات القليلة الماضية، فى اكتشاف بحيرة عملاقة قديمة شمال دارفور بشمال غرب السودان، والتى قدرت مساحتها بحوالى ٣٠ ألف كيلومتر مربع.
ونُشرت تفاصيل اكتشاف هذه البحيرة وخرائطها التفصيلية عام ٢٠٠٧ بالمجلة العلمية العالمية للاستشعار عن بعد: (International Journal of Remote sensing, ٢٨(٢٢), ٥٠٠١-٥٠١٨ (٢٠٠٧، والتى لاقت اهتماماً دولياً بالغاً لما قد يكون لها من دور أساسى فى حل مشكلة نقص المياه فى شمال دارفور بالسودان.
وتمكنت الباحثة المصرية أيضاً باستخدام تقنية الاستشعار عن بعد وكذا نظم المعلومات الجغرافية، من رسم خريطة تفصيلية للشبكة النهرية لحوض نهر قديم أُطلق عليه اسم (نهر توشكى) فى منطقة شرق العوينات، قٌدّرت مساحته بحوالى ١٥٠ ألف كيلومتر مربع، ويعتبر هذا الحوض من حيث المساحة ثانى أكبر الأحواض المائية القديمة بمصر بعد حوض نهر النيل. وقد قامت الحكومة ومازالت بحفر مئات من الآبار فى هذه المنطقة لاستخدام مياهها فى أغراض الزراعة حالياً، بعد نشر نتائج هذه الدراسة عام ٢٠٠٧ فى المجلة العلمية العالمية للبيئات القاحلة: Arid Environments, ٦٩ ٦٥٨-٦٧٥ (٢٠٠٧).
وفى اتصال هاتفى لـ«المصرى اليوم» من أمريكا- قالت الدكتورة إيمان غنيم: «رغم أن هذا الممر مطمور تحت الرمال، إلا أنه معروف لدى غالبية علماء الرصد الفضائى والجيولوجيا، أن أى نهر يجف لعوامل التغيرات المناخية والزمن، يتجمع أسفله خزان جوفى، يتوقف حجمه على طبيعة الصخور والأرض الموجود بها»، مؤكدة أن طبيعة أراضى المنطقة المحيطة بهذا الممر تتكون من صخور حجر الرمل النوبى «المعروفة بمساميتها الشديدة».
وكشفت عن أن المياه المنهمرة منذ عشرات السنين، من بئر كيفارة الموجودة فى الصحراء الغربية (والتى رصدتها «المصرى اليوم» منذ أيام)، ما هى إلا امتداد لخزان جوفى كبير قابع أسفل بحر الرمال العظيم، موضحة أن هذه المياه مجرد «تسريبات» للممر المائى العملاق.
وناشدت الباحثة جميع وزارات «الرى والزراعة واستصلاح الأراضى والبترول» بتوجيه أقصى اهتماماتها تجاه العمل على الاستفادة من نتائج هذه الدراسة، والعمل بمنطقة شمال غرب الصحراء الغربية بمصر باعتبارها «منطقة مبشرة» كمصدر لمياه جوفية «هائلة».
وقالت: «هذه المياه ممكن أن تترتب عليها طفرة زراعية فى مساحات شاسعة بهذه المنطقة، إلى جانب إمكانية الكشف عن خام البترول والغاز الطبيعى، مما يساهم فى تعظيم اقتصاد مصر».
وأبدت الباحثة المصرية استعدادها لوضع جميع ما لديها من نتائج ومعلومات «رهن إشارة الوطن وعلمائه والمسؤولين فيه»- حسب تعبيرها- من أجل رفعة راية «مصر الثورة» وشعبها.
.. والدكتور مغاورى شحاتة خبير المياه الجوفية يٌعلقّ : «الممر» قد يعود إلى «علاقات مائية قديمة».. وحفر آبار عميقة «الوسيلة الأنسب» للتأكد من وجوده
قال خبير المياه الجوفية الدولى، الدكتور مغاورى شحاتة، رئيس جامعة المنوفية الأسبق: «الممر الذى رصدته الباحثة الدكتورة إيمان غنيم، هو جزء من خزان حجر الرملى النوبى، وليس نهراً قديماً، والمشاكل التى صادفناها خلال عملنا فى منطقة الوادى الجديد وتحديداً فى واحة الداخلة، علّمتنا أن الافتراض الأمثل للتعامل مع هذا الخزان الجوفى، هو أنه مغلق وبلا منبع» ، مؤكداً أن مصدر آبار المياه المتفجرة فى مناطق متفرقة من الصحراء الغربية، «مستودع» أو خزان جوفى «قابل للنضوب».
أضاف «شحاتة» لـ«المصرى اليوم»: «الإعلان عن أى اكتشافات مائية لآبار أو أنهار مدفونة، يعد كلاماً مرسلاً تنقصه الدقة، حتى وإن حاول البعض الاستشهاد بآلية الاستشعار عن بُعد، أو الصور الفضائية، لأنه من المعلوم أنها وسائل فنية لاكتشاف مظاهر سطح الأرض، أو الأعماق القريبة التى تتراوح بين ١٠ و١٥ متراً، فى حين أن الوصول لمياه الصحراء الغربية يحتاج الى أعماق تتعدى آلاف الأمتار».
وشكك الخبير المائى فى وجود ما يسمى«النهر الجوفى» فى الصحراء الغربية، مؤكدا أن مصدر آبار المياه المتفجرة فى مناطق متفرقة من الصحراء، هو «مستودع أو خزان جوفى قابل للنضوب».
وأوضح «شحاتة» أن أراضى الصحراء الغربية ذات طبيعة معقدة، خاصة فى باطنها، لأنها تحتوى على طبقات حاملة للمياه تتداخل مع أخرى مانعة لها، وهو تكوين تتداخل فيه طبقات الأحجار الرملية والطينية، مما يحدث «انفجاراً مائياً هائلاً» - حسب قوله - عند حفر أى بئر.
وقال: «حينما يرى البعض المياه تتدفق من الآبار الصحراوية، يعتقد أنها أنهار جوفية، لكن واقع الأمر أن هذه المياه مصدرها خزانات جوفية من الرمال تتداخل معها رواسب طينية مما يوقع المياه تحت ضغط الطبقات الطينية، وهى ظاهرة سرعان ما تتلاشى مع مرور الزمن، وذلك حينما يقل الضغط الذى يدفع المياه للخروج من الأسفل».
وأرجع الخبير المائى ما يٌذكر عن وجود ممر مائى قديم فى منطقة حوض الكُفرة فى ليبيا، وكيفارة وبحر الرمال العظيم إلى «بعض العلاقات المائية القديمة» خلال الفترات المطيرة، فى عصر «البلايستوسين» (العصر الجليدى)، موضحاً أن خزان حجر الرمال النوبى هو نتاج «تاريخ جيولوجى وهيدرولوجى» قديم.
وقال: «حينما نتحدث عن أى كشف مائى يجب الاستناد على عدة قواعد علمية، أهمها حفر آبار عميقة، واستخدام طرق جيوفيزيقية لقياس الجاذبية والمغناطيس والزلزالية والكهربائية، لأنه كلما زادت البيانات والمعلومات عن كل بئر، مع إجراء التجارب اللازمة سنصل إلى تقييم كمى ونوعى آمنين، ويمكن من خلاله التعرف على كميات المياه ونوعيتها».
أضاف «شحاتة»: «يجب أن يكون ذلك مقروناً بدراسات التربة والبيئة، بما يُمكّننا من وضع سياسات استغلال ناجحة دون إفراط فى تقديرات، أو تفريط فى أخرى، حتى تكون خطط التنمية مبنية على قواعد سليمة».
وتابع: «وجود المياه فى باطن الصحراء الغربية بهذا التكوين الضخم، له تفسير علمى، مرتبط بحجر الرمال النوبى الذى يحتفظ بالمياه عذبة، تزداد عذوبتها مع العمق»، مؤكداً أن المياه الموجودة فى بئر كيفارة وماحولها وتحت بحر الرمال العظيم، هى تدفقات معروفة منذ فترة، وليست دليلاً - حسب قوله - يمكن الاستشهاد به على صحة ممر التنمية المنسوب للدكتور فاروق الباز.
وأشار خبير المياه الى أن أرض منطقة كيفارة تتكون من رواسب «المغرى»، وهى طينية وأحجار رملية وبها مياه، تحتها رواسب حجر جيرى، ثم صخور حجر الرمل النوبى، لافتاً إلى أن الممر «الملتقط» قد يكون جزءاً من خزان حجر الرمل، والذى تسير فيه المياه من الجنوب الغربى (ليبيا) إلى الشمال الشرقى (مصر)، بمعدلات متفاوتة طبقاً لنوع الصخور، ووجود فوالق أو صدوع أو أى تركيبات جيولوجية قد تعوق أو تُسهّل حركة المياه.